المادة    
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: (قوله: ( وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته )، فالمراد بهذا: أن الله تعالى قضى على عباده بالموت كما قال تعالى: (( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ))[آل عمران:185] والموت هو مفارقة الروح للجسد، ولا يحصل ذلك إلا بألم عظيم جداً، وهو أعظم الآلام التي تكون في الدنيا)، وكل ألم تخيله عقلك فالموت أعظم منه، وكل ما ينزل بك في عضو من أعضائك، وتجد شدته عليك، فشدة الموت أعظم منه؛ لأنه يشمل البدن والأعضاء كلها، والموت أكبر واعظ، بل لو تأمل العقلاء في هذه الدنيا لوجدوا أن الموت حقيقة كبرى لا يمكن لأي عاقل أن ينكرها، أو يماري فيها، المؤمن أو الكافر، العالم أو الجاهل، ولا يستطيع أن ينكر الموت أحد، وأنه لن يموت، وأن الموت لن يقع به أو بغيره، وما من أحدٍ إلا وبينه وبينه الموت نسب، والموت حق، ويجب أن يكون كل واحد من الناس لا يماري في هذا، ويترتب على ذلك طريقان: فأما المؤمن فإن الموت واعظ له، وكفى بالموت واعظاً، إذاً فلماذا أعصي الله عز وجل؟ ولماذا أرتكب ما حرم الله؟ ولماذا أغفل عن طاعة الله؟ العمر الذي يمضي ويطويني مراحل كل يوم تقربني من ماذا؟ إنها تقربني من الموت وتباعدني عن الحياة، فنحن نظن أن أعمارنا تزيد وهي في الحقيقة تنقص، وبالتالي لابد أن أعمل وأجتهد لما بعد الموت، بينما الكافر بخلاف ذلك؛ فإنه يوقن بالموت ويعلم به، لكن يدفعه ذلك -عياذاً بالله- إلى الانغماس في الشهوات، وترك الالتزام بأمر الله، بل بعضهم يصرح إذا قيل له: يا أخي! لماذا هذه الشهوات وهذه الغفلة؟ يقول: أنا سأموت، فدعني أتمتع بحياتي، حتى بعض العوام والغافلين يقولونها، وأكثر الناس في غفلة إلا من رحم الله، فجاءه الشيطان فقلب عليه القضية، وأصبح يقول: ما دمت سأموت، إذاً لابد أن أغتنم العمر في معصية الله، عكس ما يجب أن يكون، كما قال الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد :
إذا كنت لا تسطيع دفـع منيتي            فدعني أبادرها بما ملكت يدي
فهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة كل غاية منيتهم الدنيا، والله تعالى جعل الناس على نوعين: (( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ))[هود:15] وهؤلاء هم الطرف الأول، وأما الآخر ففي قوله تعالى: (( وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))[الإسراء:19]، فهذا الذي يريد الدار الآخرة، فهو يسعى لها سعيها، ويستفيد من هذه الحياة الدنيا ليعمرها بالخير الذي يلقاه عند الله.
إذاً: فـ الموت كحقيقة يؤمن بها الجميع، لكن فرق كبير جداً بين ما يبني المؤمن على هذه الحقيقة ويعمل، وبين ما يبني الكافر عليها.
  1. أثر الحسن: (ما رأيت يقيناً لا شك فيه...)

    قال الحسن رحمه الله: [ ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت ]. أي: كل الناس موقنين بالموت، فهو يقين لا شك فيه، فالواجب أن يكون ذلك دافعاً وحافزاً على الطاعة، والإنابة واغتنام الوقت والعمر، وكل لحظة ودقيقة لابد أن تكون فيما يقربك إلى الله، لكن الناس جعلوه كأنه لا يقين فيه، ولو سألت أي واحد ممن يؤمن بالموت: أتؤمن بالموت؟ فيقول: أنا أؤمن بالآخرة، وأن الله تعالى يبعث من في القبور، وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيءٍ قدير، وفي كل صلاة نقول بعدها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، فالكلام نظرياً مؤمن به لا نقاش فيه، فهو يؤمن بالموت وبالبعث، لكن إن نظرت إلى حياته ستجد أنه يحلم ويخطط ويتكلم كلام من قال الله تبارك وتعالى فيهم: (( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ ))[الحجر:3]، فهو لا يدري، وهو غافل في هذا الأمل الطويل جداً، فيهرم ابن آدم ويشيب ويشبُّ معه اثنان: الحرص وطول الأمل، وبعد ذلك أي جيل حي يظن أن ما قبله من الأجيال ما هي إلا أخبار، والمستقبل يمكن أن لا يأتي، أي: أن الدنيا هي نحن، والحياة هي نحن، والكون هو أنا، وعمري أنا هو الدنيا، وتفكير أكثر الخلق هو هذا، بينما حقيقة الأمر أن الله تعالى جعلنا خلائف، أي: عبارة عن خط في سلم أو مسطرة، أو رقم من هذه الأرقام، وقبلك من عاش كان يظن مثل ظنك ويؤمَّل كأملك، بل حتى ذكر الله تعالى ما هو أشد من هذا: وهو أن الذين من قبل: (( َأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ))[الروم:9]، فماذا تظنون؟ لنفرض أن المخاطبين هم كفار العرب، فماذا عملتم؟ بنيتم الكعبة؟ يمكن أن هذا أكبر بناء بناه العرب، أو دار الندوة، فأين هي من عاد، إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وما شادت وما بنت؟ أين هي من ثمود: (( وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ))[الفجر:9]، أي: قطعوا، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، فماذا فعلتم أنتم يا معشر قريش؟! ولهذا خاطب هود عليه السلام قومه عاداً فقال: (( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * (( وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ))[الشعراء:128-130]، و هم الذين قالوا: (( مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ))[فصلت:15]؟ أي: هل هناك من هو أقوى منا؟ فهذا هو غرور الكافرين، قال تعالى: (( إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ))[الملك:20]، سواء كانوا دولة من الدول، أو مجتمعاً من المجتمعات، فتقول له: انتبه! نخشى عليكم، نخاف عليكم، فسيقول لك: أهناك أقوى منا؟ أهناك أشد منا قوة؟ فهم كعاد يقولون: من الذي يمكن أن يحاربنا؟ لا الروم ولا الفرس ولا الهند ، بل لا يقفون أمامنا ولا لحظة، وكل الأمم التي كانت حولهم في العالم تلك الفترة، يرون أنفسهم أنهم أقوى شيء، ونسوا أن الله الذي خلقهم وأعطاهم القوة، هو أقوى منهم، ولذلك لا يبالي الناس، ونحن ننظر اليوم دول الكفر الظالمة الباطشة الطاغية، إن خوفتها وذكرتها بالله تقول: تخوفنا من ماذا؟ هل هناك دولة أقوى منا؟ فلا يمكن أن يصدقوا أن هناك أقوى منهم؛ لأنهم ينسون قوة الله، قال تعالى: (( نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ))[الحشر:19]، فهذا الغرور يقع، فكل جيل ينسى، سواء كان أمة أو فرداً، فالأمة تنسى ما حدث للأمم قبلها، والفرد ينسى ما حدث للأفراد من قبله، والحياة عنده هي حياته هو، ولهذا يتكلم عن آبائه على أنهم أحاديث قد انتهت، وأولاده يقول: هؤلاء أطفال، بينما ولادة الطفل أو وجوده معناه: ابتعد أنت عن الطريق، فأنت تبني البيت له، فهو الذي سيرث البيت والشركات والأعمال، فالولد ينظر أن هذا البيت بيته، وهذا الملك ملكه، وهذا الشغل شغله، والأب يرى أن الدنيا كلها ملكه، حتى لو كان عمره ثمانين سنة، وأولاده على ستين سنة، وهكذا الغرور، لكن في آخر الأمر من بيتك الذي بنيت، أو بيوتك الكثيرة وعمائرك الكثيرة التي بنيت وتعبت فيها، إذا كانوا من المحسنين الطيبين أعطوك غرفة الشايب، وأحضروا لك خادماً، وهم بذلك يعتبرون من الأبناء البارين، أما الشركات والمؤسسات والأعمال فهذه ملكهم، أي: ملك الأبناء، والوالد قد كبر في السن وهرم وخرف، ولم يبق له إلا غرفة واحدة، وهكذا العبر عظيمة لكن لا أحد يعتبر؛ لأن الأب هذا هو نفسه كان ينظر إلى أبيه نفس النظرة، وكذلك الأبناء، وقليل من وفقه الله وأدرك أهمية الموت، وكان له دافعاً إيجابياً، ونحن لا نقول: الموت بالمفهوم الصوفي، أو بمفهوم أبي العتاهية وأمثاله، أي: ما دام أننا سنموت فلا نعمل ولا نتزوج ولا نتاجر ولا نكدح ولا نشتغل، فهذا ليس من ديننا في شيء، إذ إن الموت عندنا يؤدي إلى عمل إيجابي، من التقوى والاجتهاد والسعي والحرص على ما ينفع، والاستغناء عن الخلق، والعمل لدنياي ولأهلي ولأقاربي، بل على عامة المسلمين وفقرائهم ما استطعت، وكل ذلك وأنا موقن بأنني مستخلف في هذا المال، وأن العمر محدود، وأنه محسوب عليَّ، وأنه لا بد أن أتقي الله تبارك وتعالى فيه، وهذه المسألة لا تخفى، لكن الواجب التذكير بها، فيقول: الشاهد أن ألم الموت عظيم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا وإياكم على سكرات الموت.
  2. الآثار الواردة عن السلف في صفة الموت

    ‏يقول ابن رجب: (قال عمر لـكعب : [ أخبرني عن الموت. فقال: يا أمير المؤمنين! هو مثل شجرة كثيرة الشوك في جوف ابن آدم، فليس منه عرق ولا مفصل، وهو كرجل شديد الذراعين، فهو يعالجها ينتزعها ] فكبى عمر). أي: هذه الشجرة داخلة في كل عرق وفي كل مفصل، ورجل قوي جداً يريد أن يقتلع الشجرة، فينتزع الحياة من كل عرق، ومن كل عصب، ومن كل مفصل، فهذه هي شدة الموت نسأل الله أن يعيننا وإياكم.
    قال: ( [ ولما احتضر عمرو بن العاص سأله ابنه عن صفة الموت، فقال: والله لكأن جنبي في تخت، ولكأني أتنفس من سم إبرة -أي: خرم إبرة- وكأن غصن شوك يجر به من قدمي إلى هامتي ] ). هذا وصف الموت كما وصفه عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، وهو من أبلغ العرب وأفصحهم، فالموت عظيم وشديد وأليم.
    قال: (وقيل لرجل عند الموت: كيف تجدك؟ فقال: أجدني أجتذب اجتذاباً، وكأن الخناجر مختلفة في جوفي، وكأن جوفي في تنور محمي يلتهب توقداً) -نسأل الله العفو والعافية- فهذه والله حال الإنسان عند الموت، فليعد كل منا لهذا اليوم عدة وجواباً.
    قال: (وقيل لآخر عند الموت: كيف تجدك؟) وتأمل كلامهم قبل أن يدخلوا في شدة السكرات، فلا يستطيع أن يتكلم، (فقال: كأن السموات منطبقة على الأرض عليَّ، وأجد نفسي كأنها تخرج من ثقب إبرة). ولذلك وصف الموت شديد على أية حال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عانى من ذلك وقال في الحديث الصحيح: ( إن للموت لسكرات ).
  3. كراهية البشر للموت باعتبارات عدة

    يقول: (فلما كان الموت بهذه الشدة، والله قد حتمه على عباده كلهم، ولا بد لهم منه، والله تعالى يكره أذى المؤمن ومساءته، سمى ذلك تردداً في حق المؤمن). فهل هذا هو الاعتبار الوحيد أن الموت شاق وشديد؟ نعم، لكن هناك اعتبار آخر هو: هل الناس يكرهون الموت؛ لأنه شاق وشديد فقط؟ نعم؛ لأن فيه مفارقة الحياة، ولذلك بما أغرى إبليس أبوينا آدم وحواء فقال لهما: (( هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ))[طه:120] فسبحان الله! هذه نزعة موجودة من غير أن يفكر، ما دام فيها خلود، إذاً اندفع ونسي ما كان قد أعطاه الله وأوصاه الله به، أي: حب الحياة، حتى لو لم يكن في الموت مشقة، وكثير من الغربيين مخدوعين في هذا؛ لأن عندهم أنواع يسمونها: الموت المريح، وفي الحقيقة لا شيء مريح في ظاهر الأمور، لكن الموت المريح هو موت المؤمن الذي وفقه الله سبحانه وتعالى، وإن كان أيضاً لا يكره شدته للمؤمن كما سنرى إن شاء الله، لكن المقصود في نظر بعض الناس عضوياً أو ظاهرياً أن هناك موتاً مريحاً، أي: غرفة غاز يموت بهدوء ويرمونه وانتهى، إن الأمر ليس كذلك، إذ إن فيه انقطاع للحياة وللذة، والحياة محبوبة لدى البشر جميعاً، فأكثر البشر يكرهون الموت لأن فيه مفارقة المحبوب، وهم يحبون هذه الحياة ويتشبثون بها على ما فيها، وهذا حال أكثر الناس، وليس فقط لمجرد أن الموت فيه شدة، حتى لو لم يكن فيه شدة، فإنهم يكرهونه لما فيه من المفارقة، فهذا هو الاعتبار الآخر، فإذاً الناس جميعاً يكرهون الموت؛ لأنهم يفارقون الحياة، وحب الحياة أمر فطري راسخ في أنفسهم، فالمؤمن الولي يكره الموت بهذا الاعتبار، حتى من باب أنه يحب الحياة ليطيع الله، وهذا أيضاً اعتبار وجيه، فأنا أحب أن أعيش لأعبد الله، والمهم أنه يكره الموت، ولكن لا بد له منه، فهنا صار التردد.
  4. تخيير الله لأنبيائه قبل قبض أرواحهم

    قال: (وأما الأنبياء فلا يقبضون حتى يخيروا) أي: وهذا أخذه من عموم ما تقدم، فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هم بمنزلتهم عند الله عز وجل، لا يحتاج أن يكون هذا التردد، فهم يحبون لقاء الله ومشتاقون له، وهذه حالة غير حال بقية الخلق، إذ إن بقية الخلق يؤثرون أو يحبون الدنيا ولو نوعاً من الحب، فلا يكون ذلك في حقهم كالأنبياء.
    يقول: (قال الحسن : [ لما كرهت الأنبياء الموت هون الله عليهم بلقائه ] )، إذاً فالأنبياء مثل بقية البشر في كراهية الموت، لكن هون الله عليهم بمحبته لهم بلقائه، لما أحبوه من تحفة وكرامة، حتى أن نفس أحدهم تنزع من بين جنبيه وهو يحب ذلك لما قد مُثل له.
    قال: (وقالت عائشة : ( ما أغبط أحداً يهون الله عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عنده قدح من ماء -جاء في بعض الروايات عند البخاري وغيره: ركوة، وفي بعضها: علبة- فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل يده في القدح أو في الركوة أو في العلبة، فيمسح وجهه، ويقول: اللهم أعني على سكرات الموت، لا إله إلا الله إن للموت لسكرات ) ) فأم المؤمنين عائشة قالت: [ فلا أغبط أحداً أو لا أكره شدة الموت لأحد ]. أي: لا تغبط أحداً أن الموت هان عليه وسهل، ولا تكره شدة الموت لأحد تحبه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أحب الخلق إلى الله، وأعظمهم درجة عنده، قد عانى من سكراته.
    فهي نظرت إلى هذا، وهذا من فقهها رضي الله تعالى عنها، ولذلك يقول الشيخ كما في الحديث المرسل: كان بعض السلف يستحب أن يُجهد عند الموت.